كتب إيكو إرنادا هذا المقال ليصف كيف فقد يوم حقوق الإنسان معناه في عالمٍ يشهد مأسا16ة غزة، حيث تنهار المبادئ التي أُسست عليها الشرعية الدولية. يحتفل العالم كل عام في 10 ديسمبر بحقوق الإنسان عبر الخطب والاحتفالات، بينما يعيش أكثر من مليوني إنسان في غزة تحت القصف، والنزوح، والجوع، وانهيار البنية التحتية، وسط إفلات كامل من العقاب. تتحول غزة اليوم إلى مرآة حادّة تعكس نفاق النظام الدولي، إذ تُنتهك الحقوق “العالمية” بانتقائية، وتُزهق الأرواح في أثناء “هدن إنسانية” معلنة، بينما يفشل العالم في تطبيق القوانين التي يتباهى بها.
نُشر المقال في ميدل إيست مونيتور ليربط بين انهيار النظام الدولي وازدواجية المعايير في التعامل مع معاناة الفلسطينيين. يرى الكاتب أن المأساة لا تقتصر على احتراق غزة، بل على استمرار الاحتراق فيما يواصل العالم الادعاء بأنه يؤمن بالعدالة والكرامة الإنسانية.
انهيار النظام الأخلاقي العالمي
أظهر قصف غزة المتكرر أن “وقف إطلاق النار” لم يعد ضمانًا للحياة. تعلن إسرائيل عن هدن مؤقتة، ثم تهاجم المستشفيات ومراكز الإيواء بعد ساعات. لا تُعد هذه الحوادث أخطاءً منفصلة، بل تجسيدًا لتحوّل عالمي خطير حيث تضعف الشرعية الدولية ويُعاد تعريف حماية المدنيين سياسيًا. كل هدنة تُنتهك تبعث برسالة مفزعة: القوانين التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تقيد الأقوياء.
يجسد السلوك الإسرائيلي، بحسب الكاتب، فكرة الفيلسوف الألماني كارل شميت عن “الاستثناء السيادي”، حيث يملك صاحب السلطة حق تعليق القانون. عبر استدعاء مبدأ “الدفاع عن النفس” بلا حدود زمنية أو أخلاقية، تصوغ إسرائيل حالة دائمة من الاستثناء تتيح استخدام القوة المميتة حتى أثناء الهدن الإنسانية. بهذا، يتحول القانون إلى أداة مرنة تُفعّل أو تُجمّد بحسب المصلحة السياسية، وتفقد مبادئ العدالة معناها أمام سلطة القوة.
ازدواجية المعايير وفقدان المصداقية
تظهر المعايير المزدوجة بوضوح بين أوكرانيا وغزة. تدين القوى الغربية أي انتهاك لوقف النار في أوروبا وتطالب بالمحاسبة، لكنها تصف الانتهاكات الإسرائيلية بأنها “إجراءات أمنية” أو “أضرار جانبية”. هذه الازدواجية، كما يرى الكاتب، تدمّر مصداقية النظام العالمي القائم على القواعد، وتحوّل حقوق الإنسان إلى خطاب انتقائي يخدم مصالح سياسية لا مبادئ أخلاقية.
يستعين الكاتب بنظرية الفيلسوف جورجيو أغامبن حول “حالة الاستثناء”، ليصف غزة بأنها منطقة خارجة عن القانون تُعلَّق فيها الشرعية بينما تُستخدم لتبرير العنف. تتحول الهدنة إلى أداة عسكرية لإعادة التموضع والاستعداد لجولات قصف جديدة، بدل أن تكون فرصة إنسانية لحماية المدنيين. بهذا المعنى، لم يعد القانون الدولي مظلة للحماية، بل غطاء لتبرير التجاوزات.
يتجاوز الانتهاك البعد العسكري إلى بعد تكنولوجي مقلق. تعتمد إسرائيل على أنظمة ذكاء اصطناعي في استهداف الأهداف، وعلى مراقبة حيوية وبيانات لحظية تُحوّل البشر إلى نقاط رقمية في قاعدة بيانات ضخمة. يتحدث الكاتب عن تطور “تفاهة الشر” التي وصفتها حنّة أرندت إلى شرّ رقمي يُمارس ببرود، تغلفه خوارزميات “فعالة” تفرغ الجريمة من إنسانيتها.
احتضار فكرة الحقوق العالمية
يسأل الكاتب: هل يمكن لحقوق الإنسان أن تبقى حية في عالمٍ تُدار فيه الحروب بالخوارزميات وتُحصّن فيه الدول القوية نفسها من المساءلة؟ يجيب بأن مأساة غزة تكشف الانهيار التام لفكرة الكونية. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن الحق في الحياة والكرامة والعلاج، ويحظر العقاب الجماعي، لكن في غزة تُقصف العائلات داخل بيوتها، ويُهجّر الناس مرارًا، وتُقطع الكهرباء والمياه، وتُمنع المستشفيات من العمل. هذه ليست انتهاكات فحسب، بل انهيار للأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه يوم حقوق الإنسان ذاته.
يشير المقال إلى أن ما يجري في غزة لن يظل محليًا؛ فحين تفقد القوانين قوتها في مكان واحد، يضعف تطبيقها في كل مكان. تُصبح الجرائم الجماعية مقبولة سياسيًا إن صدرت عن حلفاء أقوياء، ويترسخ نموذج جديد من الإفلات من العقاب يشجع دولًا أخرى على تقليده.
شهدت المنطقة بالفعل آثار هذا الانهيار؛ فشعوب الشرق الأوسط تراقب المشهد في غزة بإحساس عميق بالخيانة والخذلان. انهارت الثقة بالمؤسسات الدولية التي وعدت بعدالة لم تأتِ، وازداد الإيمان بأن العدالة لا يمكن أن تُستعاد عبر منظومات عاجزة تحكمها المصالح.
يختم الكاتب بأن يوم حقوق الإنسان فقد قيمته الرمزية، إذ تكتفي الدول بالبيانات الاحتفالية، والمنظمات بالمناشدات الشكلية، بينما تواصل القوى الكبرى انتهاك المبادئ ذاتها التي تزعم الدفاع عنها. يرى أن إحياء هذا اليوم لا يتحقق بالاحتفال، بل بإعادة النظر في البنى السياسية والتقنية والقانونية التي سمحت بانهيار فكرة الحقوق.
ويؤكد أن السؤال الحقيقي في زمن غزة لم يعد: هل تجاوزت إسرائيل حدود القانون؟ بل: هل ما زال للعالم حدود أخلاقية أصلاً؟ إن سمح العالم باستمرار تدمير غزة تحت ذريعة الأمن والدفاع عن النفس، فسوف تنطفئ فكرة العالمية نفسها، وتحترق معها مصداقية النظام الحقوقي العالمي كما احترقت مدينة غزة.
https://www.middleeastmonitor.com/20251201-human-rights-day-in-the-age-of-gaza/

